الاثنين، 18 فبراير 2008

هروب

((هروب))






يصحو من نومه ثانيا جسده المستقيم يتثاءب في استطالة من الوقت ..أثناء تثاؤبه يلحظ نظرة أخيه المتحجرة ..يتظاهر بالتثاؤب يطيل في زفيره ..رئتيه تشتاق لشهيق جديد بينما هو يرفض موعناً في اطلاق زفير أبدي ..أخاه لايزال ينظر نظرة غامضة لايُفهم لها معنى..
أتعني اندهاشاً من شيء أم يطوي خبراً مشؤوماً في ثناياه أم رؤية بثرة جديدة في وجهي لطالما نصحني بالتخلص من البثور التي في وجهي ..لكن ماكل هذا الصمت المستفز..أووووووه لقد طال زمنها ..
- ما الذي كنت تقوله هذا ياساهر في منامك ؟
يعتدل في فراشه يطلب مزيداً من الشهيق مستنجداً كحجة تكسبه القليل من الوقت
- ماذا تقصد بسؤالك؟
- أعتقد أن ماقلته قد رأيته في منامك ..أنسيت أني مهتم بإشكاليات الأحلام وقاريء من الدرجة الأولى ليانج وفرويد وادلر؟
ينكس ساهر رأسه أرضاً ..يتذكر أو يتأمل.
لقد رأيت في منامي مايزيد على الثلاثة أحلام والثلاثة من أسوأ ماحلمت أو ماتفوهت به !!رباه كم من الأحلام فضحها لساني التعيس ..هل فضح أمري وأنا أقوم بـ ........ لالالالا أعتقد إذ كيف للساني ان يفضح سر الأسرار ..وماذا عن حلمي وانا أسب أبي وأتوعد أمي لكني لاأتذكر اي شيء من احلامي الا تقطعات وشراذم لامعنى لها ..أتذكر أني سببت وشتمت وفعلت اكبر الكبائر في منامي لكن لااعرف لماذا ولاكيف ولا إلام انتهى الأمر ؟ ليس هذا مايؤرقني الآن ..تباً لنفسي.. هل سببت أبي ونهرت أمي ؟وأعلن لساني الأحمق كل هذا !الويل كل الويل لك ياملعون ..ماذا أفعل بك ..لماذا لاتنطق..فالح في النطق فقط وقت الفضائح وقتما الكشف عن أسراري يالعين..أما الآن يصيبك صمت عاجز ..لعنك خالقك !
يقرأ أخوه من كتاب يمسكه في يديه بصوت عالي راميا بنظرة ساخرة صوب ساهر :
- يقول سيدنا علي كرم الله وجهه .. المرء مخبوء تحت لسانه .
صمت ساهر يزداد غوراً وعمقاً وهروباً من الرد .
بمَ أرد وأفصح ولماذا لساني عاجز عن النطق الآن اذ يتضح من نظرات أخي أنه نطق بـ ........ لا غير معقول ان يكون قد كشفه ..إلا هذا الأمر لاأظنه قد كشفه!
ينفض ساهر آثار النوم من وجهه ،أخوه ينظر في الكتاب بتصنع واضح عيناه تفضحانه ترمق ساهر بين اللحظة وأختها ..اسباب النوم تنزل سكينتها على ساهر ينفضها-ثانية- بسؤال صارخ:
- ماذا قلت في منامي ..هل قمت بـ....(يشير بسبابته ووسطاه صوب الخارج )
يوميء أخوه برأسه ..يعالج ايماءته بسؤال داهم :
- أترغب في الخلاص من أبيك وأمك ؟ وماكل هذا اللعن والسب والكره والضغينة؟أهذا جزاؤهما منك ؟!
الدهشة تبتلع كل كلمات ساهر ولسانه يقف موقف العاجز يحس بتأنيب الضمير ..منكمشاً يكاد يسقط في الحلقوم قبل أن يمضغه ساهر غيظاً وغضباً .
يستطرد الأخ في هدوء عن عمد :
- أظنك لاتعرف أن بعض ممانحلم به هو رغبة عجزنا عنها في الواقع فيحققها لنا الحلم ؟،لماذا تنظر إليّ ببلاهة هكذا ..ان كنت لاتصدقني خذ هذا الكتاب لفرويد واقرأ مافيه فقد تصدق قولي .
ينحي الأخ الكتاب الذي في يده جانباً ويتناول كتاب تفسير الاحلام لسيجموند فرويد يمد يده لساهر. كالثور قبل اعلان خواره يتراكم الغيظ داخل صدر ساهر على اطلال الذوق والأدب ..ينفجر صارخاً بكلمات متقطعة ..يمسك بالكتاب يفت عضده ..يرمي به في وجه أخيه:
- أي سفه هذا..تباً لفرويد ..أأقتل أبي وأمي ؟ أجننت ؟ وهل السب والشتيمة يفضيان الى قتل ؟
- ليس في كل الأحوال ..لكنك بالفعل كنت تقول في الحلم "سأقتلكما ..سأتخلص منكما .."
كالبالون الممتليء شكه دبوس.. ينفجر ساهر متراخياً على الأرض مستمعاً لحديث أخيه الذي انتهى بالفعل ولكنه لايزال ينتظر البقية-التي خلُصت- في صدمة قتلت التفكير ..حاول ان يتذكر الحلم لم تسعفه ذاكرته ..خذلته حين طلب منها المداد والعون حفظاً لآخر قطرة ماء في صحراء وجهه .
يخرج أخوه مستأذناً ..لم يعِ الاذن ،يتبدل المشهد ويتغير ..سريره يختفي.. كتب أخيه تنعدم ..الألوان تستحيل فراغاً ..سحب بيضاء مهترأة تحل محل السقف ..الأرض تنشطر نصفين من تحته كل ماعليها يغور ويغور..الماء يخرج للسطح مغرقاً كل شيء ..ساهر مُتعب مرهق من التفكير لايحس بأي تغيير ..الماء تقترب من عنقه ولازال غارقاً في عمق افكاره ..حتى اذا ماأحس الغرق فعلاً ..الماء علت شعر رأسه شبراً ..ينتفض خارجاً للهواء منتزعاً أكبر قدر من الشهيق.. فتحتي الانف تتسعان عن آخرهما وانفراجة فيه تكاد تكسر فكيه..يرى بالقرب من الشاطيء اثنان يعرفهما ..يضيق عينيه ..يفركهما متخلصاً من الماء المالح ..يبتسم بشدة ويفرح فرحاً شديداً كاد أن يغرق على إثرها ..راح يلوح ويشير ..مخرجاً ذراعه اليمنى بأكملها بقوة ..يتبعها غطسة بسيطة في الماء.
أميييييييييييييي.. أبيييييييييييييييييييييييي ..لم لاتأتيان إلي فأنا أغرق ؟ انا على مشارف الموت ..لاتتركاني وترحلا ..أمي أنا أحبك لاتتركيني وانتِ تحبيني اليس كذلك ؟ارجوكي ردي ياأمي ..أبييييييييي ، الماء تطمس معالم جسده شيئاً فشيئاً الأبوان يختفيان من المشهد تماماً ..ساهر يغرق تماماً ..يموت ..
فضاء شاسع يخلو من الوجود والعدم ..ساهر يرقد لاهنا ولاهناك ..جسده مكسو باللون الأحمر القاني ..كتلة من الحمم البركانية الخالصة ..يظهران هذه المرة بنظرات جافة لاحيوية فيها والوجوه شاحبة لاروح فيها والأجساد قطعة واحدة مثالية الشكل لابروز فيها إلا عند منطقة القلب نتوءات مدببة بارزة لها شكل صخري .
لماذا لم تنقذاني ؟أي جحود هذا ؟ هل مات قلبكما ؟ أأقول لكما أبي وأمي أم كُسر هذا الرباط الندائي؟ هل انا ابنكم ام ابن حرام ؟ هل ملامح وجهي تؤوب الى انتفاء نسبي لكما ؟ لا ليس هذا هو السبب فلو كنت ابن زنا ورآني غريب عالمُ بالأمر لما توانى في انقاذي ؟ انه الكره والحقد في صميم القلب ..نعم ! أنتما ..يابنت السافلة وياابن الحرام ..
سأقتلكما ..سأتخلص منكما !
سأقتلكما ..سأتخلص منكما !

سأقتلكما ..سأتخلص منكما !

الأم تدق الباب ..ساهر يصحو من غفوته ، هياااااا .. قم من الأرض ياحيوان واغسل وجهك العفن !








>>><<<







على طاولة الطعام الكل يجلس في موقف المستلهم لأفكارها وروائحها إلا ساهر له طاولة أخرى يفترشها في عقله لايقربها او يتذوق ماعليها فهو مستنكر رافض لما حدث ،يالي من أحمق أكُل هذا العته مخبوء في داخلي ولم أره وعندما أراه يكون أخي شاهداً يالحسرتي،دمعة تروح وتغدي بالقرب من قعر عينيه متوترة لامستقر لها يدفعها حزن وصدمة ..يسحبها حياء وخوف،يستدير بعينيه مع ثبات كامل جسده ورأسه تجاه أخيه المصدوم ..العينين يرسمان عبر الاثير اشارة لــ.. لا كبيرة لا مستنكرة.. –لا- تٌعلَن في سر لا ينفذ جداره سوى عقل الأخ ،الأب رامي كامل حواسه حتى السادس منها في بطون الطاولة الحافلة بالطعام وساهر متأفف ،الطاولة عليها لحم نيء طازج يسري فيه الدم الأحمر في حيوية دونما اي تجلط ..

إنها آذان وهذان ذراعان وذلك خصر تلفه انثوية وهذا ...وذاك... ،ياإلهي إنها أمي ..كيف ذلك ؟ وأبي هو الآخر ! ،ماذا تنتظران وماهذا الاستسلام منكما؟ جثتان تنتظران ان أنبش فيهما اظافري وانيابي كالأسد الهائج على غزالة مترنحة..فريسة قبل ان تُفترس ..هل هو اغراء لي بالخلاص منكما أم دفعي نحو هوة الجريمة وفي حق من؟ أنتما ! مهما فعلتما أبداً لن يحدث ..أبداً.
صوت خشن متواتر النبرات المتقطعة يمزق نسيج أفكار ساهر :
- مابك ياولد ..ما الذي حل بك مجدداً أيها الخائب المجنون ..أمك تشكوني حالك الغريب وأصدقائك الأغبياء لم أعُد أرى طلتهم البهية !
- من فضلك أبي.. اتركه الآن فهو مشغول بالتفكير في امتحان السنة الأخيرة له.
قهقهة تلبس حلة ساخرة متعالية ..من مكان قصي :
- ليتها سنته الأخيرة في الحياة كلها ..حتى نستريح .
تهرب دموع ساهر لأحضان خديه الباردين تكسبهما دفأً ينتشي بالمواساة والصحبة والرفقة التي فقدها ..
لا أشباحكم ولا أصولكم قادرة على اغوائي بالخلاص منكم ..لكن كل مايقتلني في كل لحظة هو هذا الشيء الغامض ..أخي يقول ان أحلامي نتاج كبتي وارادتي اللاواعية ..لكن لاأحسها أبداً ولاأشعر نيتها الحقيرة تلك ..كأنني جسد لعقل آخر ..ارحمني ياأرحم الراحمين ..أكاد أُ ُجن !ماهذا الذي أرى انه هو الذي اخشاه قد أتاني لطالما فكرت فيه واستعددت له تمام الاستعداد.. فلن يعلم بأمره احد ابداً.. انا في كامل وعي الآن سأحاربك لابد لي من انتصار، لطالما احتللت عقلي وشوشت تفكيري عن نفسي..جعلتني اكظم واكبت حقداً تجاه ابي وامي ..نعم هما لم يسمعا يوماً لندائي ولم يروني على حقيقتي..أرفض حديثهم..قد أرفضهم ..لكن لست بشعاً لهذا الحد الذي أ...، ..خوفي منك الدائم ذهبت مع ريحه آمالي إحساسي بكل شيء ..حتى أنا لم تعد أنا بل صارت أنت ..خوفي منك جعلني في موقف الجبان الخائن ابتعتني مني ..قبلت ..طلبت خنوعاً وصكاً بالتنازل عن كل شيء حتى افكاري قدمتها قرابين خشية قوتك..التي لاأعلم أين هي أو على الأقل أين ملامحها ..بالفعل فأنت وديع الشكل قزم الحجم ..لماذا خضعت وأذعنت لوداعتك !..ياحقير ياسافل ياابن اللئيمة ..ياإلهي .. أووووووه !!
يستفق ساهر من نومه فقد هاجمه النوم بشراسة، إستسلم له سريعاً والتحف الطاولة التي لم يمس منها مايفض بكارة الجوع ..نقله أخيه الى سريره وغاص في بحار افكاره ..هو وإن كان نائماً لكن يبدو انه دخل الحلم بارادته, اختار الدخول لاسرار عقله ربما يعثر على سبب جنونه المقترب لاشك .
الأخ يرمقه بنفس النظرة .ساهر يخفي في جيوب أسراره جبلاً من الشتائم لنفسه والتوعد والتهديد .
- ضحية جديدة في أحلامك التعيسة يا ساهر ..يبدو أن الأمر قد خرج من يديك كما خرج من أيدينا !
- بأيدينا! .. هل ؟ (يشير بسباته للخارج)
- نعم لقد عرفوا ..لشد خوفي عليك حرصت على ان يساعدوني لانقاذك من براثن الجنون والهرطقة.
حمرة عينيه-اثر صحوه المفاجيء من النوم- تفرز درجات قاتمة تلهث خلف اللون الاسود لكنها لاتناله ..الارهاق رسم كحلاً حول العينين المنهكتين ..الصمت هو الحاضر الآن جاثم على انفاس الكلام حتى الايماءات لاحول لها ولاطاقة ..عيناه تبرز فجأة خارج محيط جمجمته..
- ياأخي لكن هذه المرة يختلف عن كل سوابقي الجنونية إن كنت تعدني مجنوناً بالفعل !
- ساهر! ..ماكل هذه العدوانية ونوايا القتل والانتقام..ماكل هذا الكبت لكأنك عشت عمرك كله مغبون حقك مسلوب ارادتك ..معدم الوجود ؟!
- لقد عرفت سبب تيهي وضياعي ياأخي ..لاتتهمني بالجنون.. أرجوك .انهش لحم كرامتي ..كسر عظام رجولتي ..لكن إلا هذه التهمة ..إلا الجنون ياأخي ..فأنا لا أملك إلا هو ..عقلي.. انه حلمي وأملي ونور دربي تجاه الوحش الذي امتلكني في لحظة غفوة مني .
- ماأكثر غفواتك وجنونك...
الصمت ينشطر لصمتين..ندٌ في مقابل ند..ساهر وأخيه.
الأخ يستطرد: وحش ؟أي وحش يامعتوه ! أظنك تقصد حلمك الأخير ..انها اضغاث أحلام ..بالتأكيد تقصد ذلك .
- لا !
- أي لا تقولها ..أيها المعتوه أنت..الوحش هذا رسمه عقلك وقام بتضخيمه من خوفك وانطوائك من جملة اشياء حدثت لك،الوحش لايعني وحشاً بالمعنى الدارج ..فمن خاف عفريتاً ظهر له..وانت تخاف عفاريتاً كثر .
- أعلم انه ليس وحشاً انا لست بغبي لهذه الدرجة ..لكن...
- لكن ماذا؟ كفانا هرطقة وخوف وخنوع لأفكار بالية رسمها عقلنا المريض ..كفانا ذلاً لآلهة الخرافات..نحن في زمن العلم..العلم العلم ..العلم ياجاهل .
- سامحك الله..ياأخي فقبل العلم علينا بقتل الخوف فينا ..وخلق نطفة الجرأة والإقدام والحرية في ارحام نفوسنا ..التي وإن كانت في أرذل العمر فقد تلد كما ولدت امرأة زكريا –عليه السلام-
- الحرية لاتأتي بخرافاتك وهلوستك وعدوانيتك ..التزم الصمت ولاتفتح فيك ببنات احرف والا وأدتهن كما فعل اجدادنا في جاهليتهم !
- فعلاً فأنت أولى مناّ بالنسب لهؤلاء الجهلة ..نعم الحفيد لخير جد !
خرج ساهر من هذه المعركة محبطاً يائساً حزيناً فهو وحده الآن في مواجهة أخيه الذي كسب احترام وود كل من حوله بسبب نهمه و نهله من بطون العلم أما هو ففي نسيج عنكبوتهم-مخنوق- كالذبابة لاحول له ولاقوة ..
تباً لك ياأخي ياآخر أملي ..أعلم أني وحدي لن أقدر على شيء ..ليس يأساً مبرراً بعلل واهية ..لكني وحدي دونه ضعيف ..الآن عرفت لماذا نطق لساني بكل ماحلمت به. لقد أحس لساني بضرورة علم أخي بنيتي رغماً عني..لكن للأسف لم يكن يعلم هذا اللسان أن أخي قد تورط في .....
تورط أخوه في إسفافه للعلم فقط..ومَن حوله لايرون سوى العلم فقط ..لقد فهم العلم خطأ ً.
فالعلم وجد لفهم كنه الاشياء وماهيتها لا لتكسير كل الطرق المؤدية لأي فكرة..العلم يقبل كل ذي نسب به وكل غريب..العلم لايرفض الاشياء الا عند حتمية العلم بكارثيتها..ليس العلم اعمالاً للعقل وقوفاً كما الاشجار..بل رواحٌ هنا وغدو هناك ..سير ببطء أحياناً .ركض على عجلة مرات كثيرة..الكل تخلى عن ساهر.. اصدقائه.. ابيه وامه حتى اخيه .
مقص يلمع في الزاوية البعيدة ..تلمع عيني ساهر !

أحمد زكريا منطاوي

ليست هناك تعليقات:

مصر منذ 150 سنة