السبت، 16 فبراير 2008

اختلاس

اختلاس


رِجلٌ كما الوتد مضروبة في الأرض والأخرى يكاد يلامس ساقها الأرض ،متأهبٌ لأمرين عليه اختيار احدهما في التو والصوت المستنجد يشوش تفكيره ويعطل سرعة اتخاذ القرار ..بين الفينة واختها ينظر داخل السيارة سرعان مايرمي بصره حوله،كلما نظر في الداخل همّت رجليه بالانتصاب سعياً حثيثاً وعندما ينظر حوله تعودا لحيثما استقرا قبلاً.
يعض شفتيه ويمصمصهما بقوة حتى أدمى الشفا السفلي ،صفارة التنبيه تدوي في اذنيه مشيرة بسبابة اتهامها امام الناس، لحُسن حظه ان الناس لم يكترثوا للصافرة وصراخها..
فالناس حوله ،نصفهم منتظر في طابور العيش يلعنون بعضهم البعض وهذا يلكز ذاك وآخر يسبق سابقه وكثيرون يلحقون بالسابقين ،الصف يلتهمه صفوف اخرى نبتت شيطانية الصدفة وسلّم بوجودها الصف الحقيقي ولايزال الكُل يلكز ويضرب ضرباً مباحاً في مباراة شريفة لأجل الفوز بعيش السبق ،وأناس تروح وتغدو في عشوائية منتظمة لايبالون بشيء الا حين مرور سيارات الميكروباص الغاوية خشية انفلات اعصاب السائق المنفلتة دوماً،فالميكروباص كالسُبة على لسان ابناء الشوارع ، اصبح هو الطريق نفسه وأتخمه بحركاته كاسراً كل فلول اصنام الأدب والاخلاق ..
يغمغم لاعناً أين الحل ؟ ياإلهي الطف بي؟
يتأبط أوراق، ملابسه تتسول الأناقة ..الوانها جميلة عابها انعدام انسجام ،يركض ركضاً حثوثاً ،قطرات عرقه تتسابق الهروب من مسام جلده ..كالمصاب بالجديري حين تصبب عرقه ،شعره اغبر واظافره مقصوفة بعناية ،احدى الحذائين يلمع سواده ،الآخر قتل سواد لونه بعض الغبار..رباطه مفكوك ملتصق بنعله .
عرق إبطه بلل الورق والشمس نذرت ألا تغرب إلا وكل ماتحمله الاجساد من ماء قد خرج عرقاً ولو كان اصحابها في غور احلامهم ..
صوتٌ ينفذ مابين سندان ومطرقة أذنه محطماً جدار وعيه ،يقف عن غير اكتراث او فضول ،يجول ببصره ..والصوت معروف علته ونتيجته،ينفك تأبطه للورق قليلاً ،ماهذا ؟ زجاج مكسور ،لم تسعفه الدهشة وقتاً لاتخاذ اجبن القرارات..رِجلٌ تتأهب الجري ساقها يكاد يلامس الارض وأخرى دبت الأرض مستعدة للانطلاق ،ريحٌ قوية خلقت من رحم هذه اللحظة انتزعت الاوراق من إبطه المبتل ،حملتها الريح-بعناية فائقة- داخل السيارة حتى زفزفت ،ورقة ملتصقة بعرق الابط لاتزال عالقة ،الاوراق داخل السيارة وصفيرها لم يتوان عن التحذير والصراخ.. مخلصٌ في طلب النجدة ،تدمع عينيه من دون وعي ،الوجه يمسحه عرق الخوف ..يغور في تشحُبه ،مابين قرارين اثنين يترنح ،يسأل كلاهما المفر والقرارين عاجزين..
الناسُ غافلة للآن لو مددت يدي بسرعة أنتشل الورق ومن ثم اهرب كان هذا خلاصي .
يمد يده خلال الزجاج المكسور ..يُجرح ويدمي..حواف الزجاج المكسور تغرز انيابها في ذراعه ،يمد يديه يمسك بالورق ،دمه يسقط على الورق المبلل بعرقه ،أحس شيئاً يتلقفه ..
- امسكوه ..
- اللص البجح..
- لعنة الله عليك في كل كتاب
يبكي ويصرخ فيهم ،بريء والله صدقوني ياناس انا بريء .
الورق داخل السيارة كما هو وصوته يخبو ،بريء بريء بريء ،يفكر في ثاني القرارين ؛ ترْكْ الورق والهرب .
- أنا حُر في فلوسي وأملاكي عن أبي ولن تمسيها أنتِ وأولادك
- وهي من حقهم ايضاً كما كان لك الحق في مال ابيك
- أنا أبوهم حرٌ في تصرفاتي وعليهم سماع كلام (يصمت محاولاً قنص تبرير) كل اب وتربيته
- حرام عليك ،ناقص ان ترميهم في الشارع وتقول انا حر،لا نسمع منك كلمة ابوة الا حين طلبك الاذعان والانصياع التام، لم ترحمنا يوماً
- لاتكلميني بهذا الاسلوب والا رميتكِ في الشارع فعلاً لاقولاً ،اتركوني لعنة الله عليكم
جمع كل الاوراق التي بحوذة صندوقه الخشبي المتشقق ،مابين عقود امتلاك لعقارات وأراضي وشقق وودائع بالبنك.. يتأبطها بهستيرية، بينما يلعن ويشتم زوجته واولاده.
يدلف ناحية الباب .. يرمقهم وهم مصطفين في خنوع ،يااولاد الكلب يااوساخ..هذه حقوقي انا لا انتم ياأغبياء.
يرمي لهم الصندوق الخشبي فارغاً ،يسحب الباب في خيلاء حاملاً اوراقه يُدفع الباب على اثره مصفقاً.
ينظر للورق لايقدر على تركه والهرب، فكل املاكه وفلوسه بين سطور هذه الاوراق ،ينزع الورقة تحت إبطه فيجدها خطاباً راسلته به زوجته وقت خطوبتهما ،يضجر ويدمدم كالكلب المسعور ممزقاً الورقة .
كفّ الصفير عن نجدته الآلية ، يبتهج ويفرح فرحاً شديداً واذنه تطرب هذا الصمت الواجب.
فلوسي وحقي وكل ما ليّ في هذه الدنيا.
يرمي كامل ذراعه الأيسر داخل السيارة ،يمسك بالورق المختلط بالعرق والدم ،تتلقفه جمعٌ من الايادي تسبه وتلعنه وتؤدبه، بينما الصفير يصرخ من جديد.
أحمد زكريا منطـــاوي

ليست هناك تعليقات:

مصر منذ 150 سنة