الخميس، 13 نوفمبر 2008

أول مرة..قصة قصيرة

( أول مرة ! )

الصيف راحل والخريف آت في حرج وحياء من هيبة الصيف. فالظهيرة تُبروز قيظ الشمس. تأفل الشمس فجأة خلف ستائر السحب المُسدلة في مشهد نادر .يهدر موتور السيارة .. ولكن الأب يُوقف الابن ..
- وسع ..وسع..انا اللي هسوق المرادي.
بُهتت وجوه أولاده الثلاث إلا الزوجة التي غاصت في موجة ضحك لم تخرج منها حتى رفع الأب من حدة نبرته صوب ابنه..
- سيب الدريكسيون..انا إللي هسوق..قوم يلـله.
- في إيه يا سمير؟! ما تسيب الواد يسوق..من ساعة ماجبنا العربية وهو اللي بيسوق..وبعدين جاي تنوي السواقة واحنا رايحين اسكندرية.
- أسكتي أحسن لك ..وسسسسع يا علي!
يهم علي بترك عجلة القيادة عائداً للخلف محل أبيه الذي كان يجلس في المؤخرة ؛لهبوط النوم عليه دوماً أثناء السفر.وهذا ما يتفق مع بروتوكولات قيادة السيارة غير الرسمية ،فلا يصح أن ينام من بجوار السائق.فالأم تجلس في الأمام تداعب إبنها –السائق- وتعطيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب.
خارج السيارة إعلانات عن شقق وفيلات فاخرة وشاليهات أفخر وسيارات أحدث الموديلات.
يجلس الأب، يمسك عجلة القيادة في رعونة واضحة..برقت لها عيني الأم ..
- إتعلمت السواقة إمتى يا سمير ؟!
- دلوقت تشوفي إمتى إتعلمتها.
يحاول تدويرها ويُسمع صوت كحكحة تخرج من "شوكمان" السيارة وتتوقف ثم تعود للسير مرة أخرى..وقاموا جميعاً بالتصفيق للأب القائد !
طوال الطريق ظلت الأم تمدح طريقة قيادة زوجها خافية عنه مشاعر القلق والتوتر ولكن لم تستطع خفيها عن أبنائها في الخلف وكان علي يلكز امه بين الحين والآخر ساراً إليها بخوفه من أسلوب قيادة أبيه مما أكسبها خوفاً زائداً.
- شكلك عاوز تنام يا سمرمر ..الإجهاد باين عليك..قوم يا علي سوق إنت ..خللي أبوك يريح له شوية.
يضحك سمير ضحكة تُظهر مدى فهمه لها ،فعِشرة 26 سنة تكفي لفهم أكثر الأشخاص غموضاً على وجه الأرض .ولازالت تحاول إبراز حيلة أعقد وأحبك من سابقتها لعدول زوجها عن ترك عجلة القيادة وكلما انحنت السيارة و انعطفت على فجأة دخلت في هيستريا من الخوف مرددة آية الكرسي التي رددتها مايزيد عن السبعين مرة.
في الخارج مسجد علته غبرة الأيام والإهمال وقلة يتسولون الصلاة داخله.
- قريتوا دعاء الركوب يا ولاد.
ينظر لها زوجها ثم يقهقه ويضحك ابنه علي بينما سيد يعاني من بوادر تقيؤ لذا ظل معانقاً للشباك الأيسر للسيارة وسارة تغط في نوم عميق.
في الخارج كمين يربض فيه عساكره وضباطه كنمل أسود يحوم حول جثة صرصار متعفنة.
- سمعتوا عن حكاية قانون المرور الجديد؟ (قبل أن يهم علي بمداخلة يلاحظها الأب في مرآته فيقاطعه) عاوزين يشفطوا كل فلوسنا بأي حاجة وبأي شكل..هنلاقيها منين والا منين؟!!..ضرايب عقارية والا ضريبة الدخل والا ضريبة المبيعات والا أسعار البنزين المولعة والا المرتبات العيّانة..والا الدروس الخصوصية والا مصاريف الدراسة والأكل والشرب ..(ينظر لهم في خبث)دا غير حكاية المصايف اللي طالعالنا.
- إرجع بينا ع البيت يا سمير!
قالت الأم في تحدٍ ساخر وينفجر الأب ضاحكاً وابتسم علي ورسم سيد ابتسامة شحيحة واهنة لم يلاحظها أحد.
- فين الحزام يا علي (ثم قاطعاً نية علي في الإجابة) خلاص لقيته..وآدي الحزام يا ولاد الـ.......
- ماترميه على جسمك وخلاص زي ما علي بيعمل.
- بس يا ولية ..هتودينا في داهية..ليلقط الرادار كلامك ..يطسنا مخالفة وغرامة ومش بعيد حبس.دا أنا سمعت إن كل كيلومتر رادار مخفي.
- طب بُص قدامك ياخويا..وسيب إزازة العصير ..العيال ماداقوش منها حاجة.
لم يكن يتحدث في العربة إلا هي وزوجها وكانت هي الأكثر مبادرة بالحديث وظل علي متوارياً خلف كرسي الأم وخجله فهو لم يعتد فتح حديث يشارك فيه الأب إلا لأضيق الحدود أو لحاجة ملحة كالعشرين جنيه التي ينزل بها لوسط البلد مشاهداً لأفيشات الأفلام فقط حاملاً صفيحة الكوكا التي يعشقها أو عشرة جنيه مواصلات للبحث عن عمل ينتشله من بطالته.
تتوقف السيارة انتظاراً لسارة التي ذهبت تملأ الزجاجات الفارغة من ثلاجة المياه التابعة لمسجد. فجأة نظر الأب إلى علي ومسح بيمناه على رأسه وجبهته ونمق حاجبيه وفرك عينيه وعلي ذاهل خجل.
- ساكت ليه؟!..عشان قلت لك قوم أسوق بدالك.
- لا والله العظيم أبداً يا بابا.
- خلاص تعالى سوق إنت ..أنا تعبت.
- لا يا بابا سواقتك تحفة والله.
لم يقلها علي إلا خجلاً من أبيه وعاتبته أمه بنظرة قوية وحادة جعلته يتصنع النوم.
في الخلف سيد لا يزال يعاني وحده وسارة تحتضن زجاجات المياه المثلجة -الملفوفة بورق جرائد حفاظاً على حرارتها- بإخلاص وكانت قد سقطت في بئر النوم .وعلي نام فعلاً فالنوم لا يجدي معه مزاح أو اصطناع ،النوم نوم ..حقاً النوم سلطان.
على الطريق سيارات كادحة وأخرى سافرة يناطحون بعضهم لأجل الوصول لأهدافهم.
تتمازج ضحكات الزوج وزوجته وتتشابك حكاياهم وتكتشف بعد إتمامها حكاية عرفتها عن أحد الجيران أن زوجها ملماً بها قبلاً ولكنه ترك لها المجال تعبر عما يدور بداخلها.
- أنا بس سبتِك تحكي براحتِك مش لازم يعني اقاطعِك..تعرفي ان نص النكت اللي بسمعها عارفها من 30 سنة بس ماينفعش أقول للحاكي..عارفها !..بالعكس..اتصنع اندهاشي واستغرابي وارسم الضحكة بين الجملة والتانية وعليهم توابل من كلمة اه ويالهوي وياخرابي وفي الآخر أنفجر من الضحك لدرجة يشك فيا حاكي النكتة.
قالها وانفجر ضاحكاً.
- يالهوي منك أكبر منافق فيكي يا مصر.
وانفجرا ضاحكين.
- بص قدامك كويس..إحنا مش راكبين طفطف ياخويا.
ولأنها كانت المبادرة بالحديث فكان الصمت هو السلطان الآن ..صمتت فصمتت الحياة داخل السيارة التي بين الحين والآخر تنعطف على فجأة فتشهق الأم ثم زافرة الشهادتين مع إبتسامة تداعب زوجها لقنص أي توتر تصدره إليه.
يدير الكاسيت على أغاني شبابية ثم مصفقاً في حالة من الجنون الوقتي التي تنتاب أي منّا بلا سبب نعقله. وكان سيد قد فرغ من تقيؤه خارج السيارة ولكن الهواء أعاده للباب مما أعطاه منظراً قبيحاً وأسعفته الأم باللازم للخلاص من بقايا تقيؤه على ملابسه مما هيأه للدخول في بهجة الشطط العقلي التي ألمّت بأبيه.
- تعرف يا سيد..وأنا قدك كدا كنت كل ماسافر لازم أرجّع..جدك الله يرحمه لما يئس مني كان بيشرط عليا أجيب معايا كيس بلاستيك عشان لو مانفعش أركب جنب الشباك اذا حد من الركاب أصر .."يا الكيس البلاستيك يا إما مش هتسافر!!" (ثم في تنهيدة زفرها ممطوطة)هه الله يرحمك يابا ..وكنت اول ما اركب العربية أقعد أفكر في الترجيع وامتى هيباغتني وازاي استعد له..لغاية مايستولى عليا وأرجّع فعلاً والبركة في الكيس..بعد كدا اكتشفت إني لو مافكرتش في الترجيع مش هرجع..حاول ماتفكرش فيه وهو مش هيسأل فيك من أصله.
يضحكون جميعاً بما فيهم سارة وعلي اللذين استيقظا على تقيؤ سيد.
- كفاية قربت أرجّع.
قالها علي وانبسطوا على فراش البهجة.
- أول مرة أعرف إن السواقة حلوة وجميلة أوي كدا..لو كنت أعرف كدا ماكنتش سبتك تسوق خالص ياواد ياعلي.
- هو يا أخويا كان لازم تسوق المرادي، قالت الأم.
- مسيري أتعلم.
قالها في حزن ونظر لأولاده في حنو وعطف اقشعرت له أجسادهم.
- بقالنا أد إيه يا فاتن ماروحناش مصيف ؟
- 4 سنين وشهرين ياخويا.
- وشهرين يامفترية !.وكام يوم بالمرة ..يالهوي على ذاكرة الستات.الواحدة منكم زي نتيجة الحيط مستنية اللي يقلب ورقها يعرف اليوم والسنة والشهر وممكن حكمة اليوم ع السريع كدا.
- أيوة ياخويا مانت المرادي مودينا مصيف في تسعة..في حد يصيف في تسعة ؟!
- تسعى في الخير.
قالها كعادته في طي الكلمات وثنيها لتوائم جملاً أخرى قد تُضحك ولكنها في الغالب تُسكت من يسمعها.
على الطريق سيارة تعطلت وأصحابها يقفون في أشد العوز لا يُعيرهم أحداً أي إهتمام.
محمول علي يرن ولا يحرك له ساكناً .علي وسارة وسيد جمعهم النوم في تمازج عبثي غير مفهوم كألوان لوحة سريالية لفنان مجهول .
يمد سمير يُمناه على رأس زوجته ماسحاً ذرات التراب وبلورات العرق عن جبهتها.نسيَت أن على زوجها متابعة القيادة وكانت العربة تسير بربع بال سمير.
- يااااااااااااااه من زمان ما لمستنيش..ليه كنت قاسي علينا طول الزمن دا كله..عمري ماحسيت بحنيتك من بعد جوازنا.في فترة خطوبتنا كنا زي الفراش ما يعرفش إلا الألوان وبس يطير من لون للون.
تنعطف السيارة يمنة سرعان ما يعدل مسيرها ربع بال سمير وربما الثمن.
- الدنيا بمشاكلها واخدانا مننا..أنا بتشفط يا حبيبي..الحلو فيا بيتقتل كل يوم وماملكش غير اني اقف اتفرج. (قال سمير.
على الطريق حادث اصطدام عربة نقل بسيارة ملاكي صغيرة والجثث ملقاة على الأسفلت الملتهب.
فاتن تعلم أن زوجها قد ترك عجلة القيادة تماماً ولكنها لم تنبهه لذلك.سارة وعلي وسيد يحتضنهم النوم.
سمير وفاتن ينظران للخارج ثم ينظران لبعضهما.عجلة القيادة تتلوى في عشوائية بين يدي سمير والسيارة تتلوى هي الأخرى على الطريق.
سمير يأخذها في حضنه معانقها.تذوب بكل مافيها فيه.كان كالقدر الذي يغلي بالزيت لكنه لم يذق منه إلا ندماً على الأيام الفائتة غائباً وعيه عن إدراك لحظات الحب والوجود هذه.
السيارة تميل بعرض حارات الطريق والسيارات الأخرى تتجنبها وبعض أصحابها يشتمون سمير.هزات العربة تقتل غفواتهم سيد وسارة وعلي.
- حاسب يا بابااااااااااااااااااااا.
قالوها في صوت واحد .ومالت السيارة على جانبها الأيمن وأصيب كل من علي وأمه إصابات أعمق من الباقي.سيارات الشرطة –التي أتت في سرعة غير معتادة- تطوقهم –وربما لتطويق البهجة أيضاً- بأصوات سيريناتها المفزعة ولكنها لم تُفزع ضحكات فاتن وسمير رغم الألم الشديد.ولأول مرة ؛أمام أبنائهم؛ يحتضن سمير زوجته ولم يكن حقيقة الأمر أمام أولادهم فقط بل أمام جمهور المتفرجين والمسعفين.
أحمد زكريا منطاوي

مصر منذ 150 سنة